فصل: تفسير الآية رقم (19):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (نسخة منقحة)



.سُورَةُ الشُّعَرَاءِ:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

.تفسير الآيات (12-13):

{قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3)}.
قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [18/ 6] وَفِي آخِرِ سُورَةِ الْحِجْرِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} [15/ 88] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} [15/ 97].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8)}.
أَشَارَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِلَى أَنَّ كَثْرَةَ مَا أَنْبَتَ فِي الْأَرْضِ، مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ، أَيْ؛ صِنْفٍ حَسَنٍ مِنْ أَصْنَافِ النَّبَاتِ، فِيهِ آيَةٌ دَالَّةٌ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ.
وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ إِحْيَاءَ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَإِنْبَاتَ النَّبَاتِ فِيهَا بَعْدَ عَدَمِهِ مِنَ الْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَةِ عَلَى بَعْثِ النَّاسِ بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَقَدْ أَوْضَحْنَا دَلَالَةَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [2/ 21- 22] وَفِي أَوَّلِ سُورَةِ النَّحْلِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} الْآيَةَ [16/ 10- 11].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتَ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11)}.
قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [19/ 52].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي}.
قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنْ نَبِيِّهِ مُوسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِنَّى أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ، أَيْ: بِسَبَبِ أَنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا، وَفَرَرْتُ مِنْهُمْ لَمَّا خِفْتُ أَنْ يَقْتُلُونِي بِالْقَتِيلِ الَّذِي قَتَلْتُهُ مِنْهُمْ، وَيُوَضِّحُ هَذَا الْمَعْنَى التَّرْتِيبُ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} [28/ 33]؛ لِأَنَّ مَنْ يَخَافُ الْقَتْلَ فَهُوَ يَتَوَقَّعُ التَّكْذِيبَ، وَقَوْلُهُ: وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي، أَيْ: مِنْ أَجْلِ الْعُقْدَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ مُوسَى: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي} [20/ 27- 28] قَدَّمْنَا فِي الْكَلَامِ عَلَى آيَةِ طَهَ، هَذِهِ بَعْضَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَبْحَثِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13)}.
قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [19/ 53].
قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ مُوسَى: وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14). لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذَا الذَّنْبَ الَّذِي لَهُمْ عَلَيْهِ الَّذِي يَخَافُ مِنْهُمْ أَنْ يَقْتُلُوهُ بِسَبَبِهِ، وَقَدْ بَيَّنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الذَّنْبَ الْمَذْكُورَ هُوَ قَتْلُهُ لِصَاحِبِهِمُ الْغَبْطِيِّ، فَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى بِالْقَتْلِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} [28/ 33] فَقَوْلُهُ: قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا مُفَسِّرٌ لِقَوْلِهِ: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ} [26/ 14] وَلِذَا رَتَّبَ بِالْفَاءِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. قَوْلُهُ: فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ، وَقَدْ أَوْضَحَ تَعَالَى قِصَّةَ قَتْلِ مُوسَى لَهُ بِقَوْلِهِ فِي الْقَصَصِ: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [28/ 15] وَقَوْلُهُ: فَقَضَى عَلَيْهِ، أَيْ: قَتَلَهُ، وَذَلِكَ هُوَ الذَّنْبُ الْمَذْكُورُ فِي آيَةِ الشُّعَرَاءِ هَذِهِ.
وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ غَفَرَ لِنَبِيِّهِ مُوسَى ذَلِكَ الذَّنْبَ الْمَذْكُورَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ} الْآيَةَ [28/ 16].

.تفسير الآية رقم (15):

{قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ}. صِيغَةُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} لِلتَّعْظِيمِ، وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ رَدِّهِ عَلَى مُوسَى خَوْفَهُ الْقَتْلَ مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، بِحَرْفِ الزَّجْرِ الَّذِي هُوَ كَلَّا، وَأَمَرَهُ أَنْ يَذْهَبَ هُوَ وَأَخُوهُ بِآيَاتِهِ مُبَيِّنًا لَهُمَا أَنَّ اللَّهَ مَعَهُمْ، أَيْ: وَهِيَ مَعِيَّةٌ خَاصَّةٌ بِالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ، وَأَنَّهُ مُسْتَمِعٌ لِكُلِّ مَا يَقُولُ لَهُمْ فِرْعَوْنُ، أَوْضَحَهُ أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [20/ 46] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [28/ 35].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِ الْعَالَمِينَ}.
قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ، وَطَهَ، وَبَيَّنَّا فِي سُورَةِ طَهَ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ} [20/ 47] وَجْهَ تَثْنِيَتِهِ الرَّسُولَ فِي طَهَ، وَإِفْرَادِهِ هُنَا فِي الشُّعَرَاءِ، مَعَ شَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا}.
تَرْبِيَةُ فِرْعَوْنَ لِمُوسَى هَذِهِ الَّتِي ذَكَرَهَا لَهُ هِيَ الَّتِي ذُكِرَ مَبْدَؤُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [28/ 9] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} الْآيَةَ [20/ 39].

.تفسير الآية رقم (19):

{وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى فِي كَلَامِ فِرْعَوْنَ لِمُوسَى: {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ}.
أَبْهَمَ جَلَّ وَعَلَا هَذِهِ الْفِعْلَةَ الَّتِي فَعَلَهَا لِتَعْبِيرِهِ عَنْهَا بِالِاسْمِ الْمُبْهَمِ الَّذِي هُوَ الْمَوْصُولُ فِي قَوْلِهِ: {الَّتِي فَعَلْتَ} وَقَدْ أَوْضَحَهَا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْفِعْلَةَ الْمَذْكُورَةَ هِيَ قَتْلُهُ نَفْسًا مِنْهُمْ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [28/ 15] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا} الْآيَةَ [28/ 33] وَقَوْلِهِ عَنِ الْإِسْرَائِيلِيِّ الَّذِي اسْتَغَاثَ بِمُوسَى مَرَّتَيْنِ: {قَالَ يَامُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} [28/ 19].
وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ، أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ كُفْرُ النِّعْمَةِ، يَعْنِي أَنْعَمْنَا عَلَيْكَ بِتَرْبِيَتِنَا إِيَّاكَ صَغِيرًا، وَإِحْسَانِنَا إِلَيْكَ تَتَقَلَّبُ فِي نِعْمَتِنَا فَكَفَرْتَ نِعْمَتَنَا، وَقَابَلْتَ إِحْسَانَنَا بِالْإِسَاءَةِ لِقَتْلِكَ نَفْسًا مِنَّا، وَبَاقِيَ الْأَقْوَالِ تَرَكْنَاهُ؛ لِأَنَّ هَذَا أَظْهَرُهَا عِنْدَنَا.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: رَدَّ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ امْتِنَانَهُ عَلَيْهِ بِالتَّرْبِيَةِ، بِقَوْلِهِ: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [26/ 25] يَعْنِي: تَعْبِيدَكَ لِقَوْمِي، وَإِهَانَتَكَ لَهُمْ لَا يُعْتَبَرُ مَعَهُ إِحْسَانُكَ إِلَيَّ لِأَنِّي رَجُلٌ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

.تفسير الآية رقم (20):

{قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ}. أَيْ: قَالَ مُوسَى مُجِيبًا لِفِرْعَوْنَ: قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا، أَيْ: إِذْ فَعَلْتُهَا وَأَنَا فِي ذَلِكَ الْحِينِ مِنَ الضَّالِّينَ، أَيْ: قَبْلَ أَنْ يُوحِيَ اللَّهُ إِلَيَّ، وَيَبْعَثَنِي رَسُولًا، وَهَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ.
وَقَوْلُ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ، أَيْ: مِنَ الْجَاهِلِينَ، رَاجِعٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا عَلِمَهُ اللَّهُ مِنَ الْوَحْيِ يُعْتَبَرُ قَبْلَهُ جَاهِلًا، أَيْ: غَيْرَ عَالِمٍ بِمَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا مِرَارًا فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ لَفْظَ الضَّلَالِ يُطْلَقُ فِي الْقُرْآنِ، وَفِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ ثَلَاثَةَ إِطْلَاقَاتٍ: الْإِطْلَاقُ الْأَوَّلُ: يُطْلَقُ الضَّلَالُ مُرَادًا بِهِ الذَّهَابُ عَنْ حَقِيقَةِ الشَّيْءِ، فَتَقُولُ الْعَرَبُ فِي كُلِّ مَنْ ذَهَبَ عَنْ عِلْمِ حَقِيقَةِ شَيْءٍ ضَلَّ عَنْهُ، وَهَذَا الضَّلَالُ ذَهَابٌ عَنْ عِلْمِ شَيْءٍ مَا، وَلَيْسَ مِنَ الضَّلَالِ فِي الدِّينِ.
وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ هُنَا: وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ، أَيْ: مِنَ الذَّاهِبِينَ عَنْ عِلْمِ حَقِيقَةِ الْعُلُومِ، وَالْأَسْرَارِ الَّتِي لَا تُعْلَمُ إِلَّا عَنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ، لِأَنِّي فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمْ يُوحَ إِلَيَّ، وَمِنْهُ عَلَى التَّحْقِيقِ: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [93/ 3] أَيْ: ذَاهِبًا عَمَّا عَلَّمَكَ مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي لَا تُدْرَكُ إِلَّا بِالْوَحْيِ.
وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [20/ 52] فَقَوْلُهُ: لَا يَضِلُّ رَبِّي، أَيْ: لَا يَذْهَبُ عَنْهُ عَلْمُ شَيْءٍ كَائِنًا مَا كَانَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [2/ 282] فَقَوْلُهُ: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا، أَيْ: تَذْهَبَ عَنْ عِلْمِ حَقِيقَةِ الْمَشْهُودِ بِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى، وَقَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ أَوْلَادِ يَعْقُوبَ: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [22/ 8] وَقَوْلُهُ: {قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ} [12/ 95] عَلَى التَّحْقِيقِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ. وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَتَظُنُّ سَلْمَى أَنَّنِي أَبْغِي بِهَا ** بَدَلًا أَرَاهَا فِي الضَّلَالِ تَهِيمُ

وَالْإِطْلَاقُ الثَّانِي: وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي اللُّغَةِ، وَفِي الْقُرْآنِ هُوَ إِطْلَاقُ الضَّلَالِ عَلَى الذَّهَابِ عَنْ طَرِيقِ الْإِيمَانِ إِلَى الْكُفْرِ، وَعَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ، وَعَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ إِلَى النَّارِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [1/ 7].
وَالْإِطْلَاقُ الثَّالِثُ: هُوَ إِطْلَاقُ الضَّلَالِ عَلَى الْغَيْبُوبَةِ وَالِاضْمِحْلَالِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: ضَلَّ الشَّيْءُ إِذَا غَابَ وَاضْمَحَلَّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: ضَلَّ السَّمْنُ فِي الطَّعَامِ، إِذَا غَابَ فِيهِ وَاضْمَحَلَّ، وَلِأَجْلِ هَذَا سَمَّتِ الْعَرَبُ الدَّفْنَ فِي الْقَبْرِ إِضْلَالًا؛ لِأَنَّ الْمَدْفُونَ تَأْكُلُهُ الْأَرْضُ فَيَغِيبُ فِيهَا وَيَضْمَحِلُّ.
وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} الْآيَةَ [32/ 10] يَعْنُونَ: إِذَا دُفِنُوا وَأَكَلَتْهُمُ الْأَرْضُ، فَضَلُّوا فِيهَا، أَيْ: غَابُوا فِيهَا وَاضْمَحَلُّوا.
وَمِنْ إِطْلَاقِهِمُ الْإِضْلَالَ عَلَى الدَّفْنِ، قَوْلُ نَابِغَةِ ذُبْيَانَ يَرْثِي النُّعْمَانَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي شِمْرٍ الْغَسَّانِيَّ:
فَإِنْ تُحْيَ لَا أَمْلِكْ حَيَاتِي وَإِنْ تَمُتْ ** فَمَا فِي حَيَاةٍ بَعْدَ مَوْتِكَ طَائِلُ

فَآبَ مُضِلُّوهُ بِعَيْنٍ جَلِيَّةٍ ** وَغُودِرَ بِالْجَوْلَانِ حَزْمٌ وَنَائِلُ

وَقَوْلُ الْمُخَبَّلِ السَّعْدِيِّ يَرْثِي قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ:
أَضَلَّتْ بَنُو قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ عَمِيدَهَا ** وَفَارِسَهَا فِي الدَّهْرِ قَيْسَ بْنَ عَاصِمِ

فَقَوْلُ الذُّبْيَانِيِّ: فَآبَ مُضِلُّوهُ، يَعْنِي: فَرَجَعَ دَافِنُوهُ، وَقَوْلُ السَّعْدِيِّ: أَضَلَّتْ، أَيْ: دَفَنَتْ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الضَّلَالِ أَيْضًا عَلَى الْغَيْبَةِ وَالِاضْمِحْلَالِ قَوْلُ الْأَخْطَلِ:
كُنْتَ الْقَذَى فِي مَوْجِ أَكْدَرَ مُزْيِدٍ ** قَذَفَ الْأَتِيُّ بِهِ فَضَلَّ ضَلَالَا

وَقَوْلُ الْآخَرِ:
أَلَمْ تَسْأَلْ فَتُخْبِرْكَ الدِّيَارُ ** عَنِ الْحَيِّ الْمُضَلَّلِ أَيْنَ سَارُوا

وَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ لِلضَّلَالِ إِطْلَاقًا رَابِعًا، قَالَ: وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْمَحَبَّةِ، قَالَ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ} [12/ 95] قَالَ: أَيْ فِي حُبِّكَ الْقَدِيمِ لِيُوسُفَ، قَالَ: وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
هَذَا الضَّلَالُ أَشَابَ مِنِّي الْمَفْرِقَا ** وَالْعَارِضَيْنِ وَلَمْ أَكُنْ مُتَحَقِّقًا

عَجَبًا لِعِزَّةٍ فِي اخْتِيَارِ قَطِيعَتِي ** بَعْدَ الضَّلَالِ فَحَبْلُهَا قَدْ أُخْلِقَا

وَزَعَمَ أَيْضًا أَنَّ مِنْهُ قَوْلَهُ: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا} [93/ 7] قَالَ: أَيْ مُحِبٌّ لِلْهِدَايَةِ فَهَدَاكَ، وَلَا يَخْفَى سُقُوطُ هَذَا الْقَوْلِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ}. خَوْفُهُ مِنْهُمْ هَذَا الَّذِي ذُكِرَ هُنَا أَنَّهُ سَبَبٌ لِفِرَارِهِ مِنْهُمْ، قَدْ أَوْضَحَهُ تَعَالَى وَبَيَّنَ سَبَبَهُ فِي قَوْلِهِ: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَامُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [28/ 20- 21] وَبَيَّنَ خَوْفَهُ الْمَذْكُورَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} الْآيَةَ [28/ 18].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ}. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِابْتِدَاءِ رِسَالَتِهِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا فِي سُورَةِ مَرْيَمَ، وَغَيْرِهَا.
وَقَوْلُهُ: {فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا} قَالَ بَعْضُهُمُ: الْحُكْمُ هُنَا هُوَ النُّبُوَّةُ، وَمِمَّنْ يُرْوَى عَنْهُ ذَلِكَ السُّدِّيُّ.
وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي: أَنَّ الْحُكْمَ هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي عَلَّمَهُ اللَّهُ إِيَّاهُ بِالْوَحْيِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

.تفسير الآية رقم (23):

{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ}.
ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ فِرْعَوْنَ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا عَنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْهُ: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى} [20/ 49] وَقَوْلُهُ: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [28/ 38] وَقَوْلُهُ: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [26/ 29] وَلَكِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا بَيَّنَ أَنَّ سُؤَالَ فِرْعَوْنَ فِي قَوْلِهِ: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَقَوْلُهُ: فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى، تَجَاهُلُ عَارِفٍ أَنَّهُ عَبْدٌ مَرْبُوبٌ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [17/ 102] وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [27/ 14].
وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [17/ 9] وَفِي سُورَةِ طَهَ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى} [20/ 49].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ} إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ.
قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي سُورَةِ طَهَ وَالْأَعْرَافِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} إِلَى قَوْلِهِ: {إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [26/ 69- 77].
قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ الْآيَاتِ} [19/ 41].

.تفسير الآية رقم (94):

{فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ}. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا} [17/ 63] وَفِي الْحِجْرِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} [15/ 43- 44].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}.
مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ أَهْلَ النَّارِ يَخْتَصِمُونَ فِيهَا، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ} إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} [38/ 59- 64].
وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَ هَذَا بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} [7/ 38] وَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا} الْآيَةَ [2/ 166].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [6/ 1].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ}. قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} [2/ 48] وَفِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا} الْآيَةَ [7/ 53].

.تفسير الآية رقم (102):

{فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: أَنَّ الْكُفَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَتَمَنَّوْنَ الرَّدَّ إِلَى الدُّنْيَا، لِأَنَّ لَوْ فِي قَوْلِهِ هُنَا: فَلَوْ أَنَّ لَنَا لِلتَّمَنِّي، وَالْكَرَّةُ هُنَا: الرَّجْعَةُ إِلَى الدُّنْيَا، وَإِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ إِنْ رُدُّوا إِلَى الدُّنْيَا كَانُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُصَدِّقِينَ لِلرُّسُلِ، فِيمَا جَاءَتْ بِهِ، وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
أَمَّا تَمَنِّيهِمُ الرُّجُوعَ إِلَى الدُّنْيَا، فَقَدْ أَوْضَحْنَاهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [7/ 53]. وَأَمَّا زَعْمُهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ رُدُّوا إِلَى الدُّنْيَا آمَنُوا، فَقَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي الْأَعْرَافِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَفِي الْأَنْعَامِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [6/ 28].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ الْآيَاتِ}.
قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا فِي سُورَةِ الْحَجِّ وَفِي غَيْرِهَا، وَتَكَلَّمْنَا عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [26/ 109- 127- 145- 164- 180] فِي قِصَّةِ نُوحٍ، وَهُودٍ، وَصَالِحٍ، وَلُوطٍ، وَشُعَيْبٍ. وَبَيَّنَّا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِذَلِكَ فِي سُورَةِ هُودٍ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} الْآيَةَ [11/ 29].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ}.
قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ هُودٍ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ قَوْمِ نُوحٍ: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} [11/ 27].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ}. قَدْ قَدَّمْنَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ هُودٍ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ} [11/ 29- 30].
وَأَوْضَحْنَاهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [6/ 25] وَفِي سُورَةِ الْكَهْفِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [18/ 28].

.تفسير الآيات (117-120):

{قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ}. قَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا عَنْ نُوحٍ: قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ، أَوْضَحَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ كَقَوْلِهِ: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} [71/ 5- 7] وَقَوْلُهُ هُنَا: فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا، أَيِ: احْكُمْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ حُكْمًا، وَهَذَا الْحُكْمُ الَّذِي سَأَلَ رَبَّهُ إِيَّاهُ هُوَ إِهْلَاكُ الْكُفَّارِ، وَإِنْجَاؤُهُ هُوَ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ، كَمَا أَوْضَحَهُ تَعَالَى فِي آيَاتٍ أُخَرَ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [54/ 10] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [71/ 26] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ هُنَا عَنْ نُوحٍ: وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، قَدْ بَيَّنَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَنَّهُ أَجَابَ دُعَاءَهُ هَذَا؛ كَقَوْلِهِ هُنَا: فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} الْآيَةَ [29/ 15] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [37/ 75- 76] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
وَقَوْلُهُ هُنَا: ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [29/ 14] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [11/ 37] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَالْمَشْحُونُ: الْمَمْلُوءُ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُبَيْدِ بْنِ الْأَبْرَصِ:
شَحَنَّا أَرْضَهُمْ بِالْخَيْلِ حَتَّى ** تَرَكْنَاهُمْ أَذَلَّ مِنَ الصِّرَاطِ

وَالْفُلْكُ: يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ، فَإِنْ أُطْلِقَ عَلَى الْوَاحِدِ جَازَ تَذْكِيرُهُ؛ كَقَوْلِهِ هُنَا: فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، وَإِنْ جُمِعَ أُنِّثَ، وَالْمُرَادُ بِالْفُلْكِ هُنَا السَّفِينَةُ؛ كَمَا صَرَّحَ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} الْآيَةَ [29/ 15].

.تفسير الآية رقم (176):

{كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ}. قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ أَصْحَابَ الْأَيْكَةِ هُمْ مَدْيَنُ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَعَلَيْهِ فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ بَيَّنَتْهَا الْآيَاتُ الْمُوَضِّحَةُ قِصَّةَ شُعَيْبٍ مَعَ مَدْيَنَ، وَمِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ، أَنَّهُ قَالَ هُنَا لِأَصْحَابِ الْأَيْكَةِ: {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [26/ 181- 183] وَهَذَا الْكَلَامُ ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَهُ لِمَدْيَنَ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ؛ كَقَوْلِهِ فِي هُودٍ: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [11/ 84- 86] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، قَوْلَنَا: فَإِنْ قِيلَ الْهَلَاكُ الَّذِي أَصَابَ قَوْمَ شُعَيْبٍ ذَكَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي الْأَعْرَافِ أَنَّهُ رَجْفَةٌ، وَذَكَرَ فِي هُودٍ أَنَّهُ صَيْحَةٌ، وَذَكَرَ فِي الشُّعَرَاءِ، أَنَّهُ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ.
فَالْجَوَابُ مَا قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي تَفْسِيرِهِ، قَالَ: وَقَدِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ كُلُّهُ، أَصَابَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ، وَهِيَ سَحَابَةٌ أَظَلَّتْهُمْ فِيهَا شَرَرٌ مِنْ نَارٍ وَلَهَبٌ وَوَهَجٌ عَظِيمٌ، ثُمَّ جَاءَتْهُمْ صَيْحَةٌ مِنَ السَّمَاءِ، وَرَجْفَةٌ مِنَ الْأَرْضِ شَدِيدَةٌ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ فَزَهَقَتِ الْأَرْوَاحُ، وَفَاضَتِ النُّفُوسُ، وَخَمَدَتِ الْأَجْسَامُ، انْتَهَى. وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ شُعَيْبًا أُرْسِلَ إِلَى أُمَّتَيْنِ: مَدْيَنَ وَأَصْحَابِ الْأَيْكَةِ، وَأَنَّ مَدْيَنَ لَيْسُوا هُمْ أَصْحَابَ الْأَيْكَةِ، فَلَا إِشْكَالَ. وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ هَذَا الْقَوْلُ: قَتَادَةُ، وَعِكْرِمَةُ وَإِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا بَعْضَ الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةِ لِهَذَا فِي سُورَةِ الْحِجْرِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [25/ 78- 79] وَأَوْضَحْنَا هُنَالِكَ أَنَّ نَافِعًا، وَابْنَ عَامِرٍ، وَابْنَ كَثِيرٍ قَرَأُوا لَيْكَةَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ، وَسُورَةِ ص، بِلَامٍ مَفْتُوحَةٍ أَوَّلَ الْكَلِمَةِ، وَتَاءٍ مَفْتُوحَةٍ آخِرَهَا مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، وَلَا تَعْرِيفٍ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْقَرْيَةِ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ، وَأَنَّ الْبَاقِينَ قَرَأُوا: {الْأَيْكَةِ} بِالتَّعْرِيفِ وَالْهَمْزِ وَكَسْرِ التَّاءِ، وَأَنَّ الْجَمِيعَ اتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ فِي ق وَالْحِجْرِ، وَأَوْضَحْنَا هُنَالِكَ تَوْجِيهَ الْقِرَاءَتَيْنِ فِي الشُّعَرَاءِ وَص، وَمَعْنَى الْأَيْكَةِ فِي اللُّغَةِ مَعَ بَعْضِ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ.